بسم الله الرحمن الرحيم
6/6/2004
للولوج في هذا الموضوع ، لابد لنا من توضيح مفهوم اللعبة السياسية ، فاللعبة السياسية من ناحية قُطرية ، وخاصةً في الدول الاوتوقراطية ، تعتمد على الإمكانيات الفردية
، وقوة التنظيم ، ومستوى المشاركة الشعبية 0 أما من الناحية الإقليمية فتعتمد على مدى التنسيق الإقليمي ، ومستوى قوة الترابط لصيانة المصالح المشتركة0 في حين أنها على المستوى
العالمي تعتمد على مراقبة الهزات السياسية العالمية ، ووضع استراتيجية إقليمية لاستغلال قنوات الصراع العالمي ، وتوظيف استراتيجيات وسلوكيات هذا الصراع من قِبل الأقاليم الغير
معنية بطريقة مباشرة فيه ، حتى يتسنى لهذه الأقاليم الغير مشاركة في الصراع من الاستفادة من نتائجه ، أو بعض نتائجه 0
هذه المقدمة كشرق أوسطيين أو مواطنين من العالم النامي نقصد منها وبطريقة مباشرة أن جميع الصراعات التي تدور في عالم الشمال ، ويضاف لهم الكتلتين الأكبر سكاناً
في العالم الصين والهند على التوالي ، وخاصةً الصراع الذي يدور ما بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ، هل العالم يتجه فنجد هذا الصراع يدور حول محورين عالميين 0 فالولايات
المتحدة تريد أن تسيطر سيطرة مطلقة على جميع إمكانات العالم النامي من ناحية ، ومن الناحية الأخرى فالولايات المتحدة تحافظ على تدخل مباشر لها في جميع التكتلات العالمية ، التي
يوجد عندها طموح لمنافسة القطبية الأحادية الأمريكية العالمية ، ومن هذه التكتلات العالمية من الشرق إلى الغرب الصين والهند وروسيا الاتحادية ، وأن يكن المنافس الحقيقي لقطبية
الولايات المتحدة العالمية ، هو حليفها الاستراتيجي الاتحاد الأوربي 0
ونجد بروز صورة الصراع الحقيقي ما بين حليفي الحرب الباردة ، هو بعد انتهاء الحرب الباردة مباشرةً ، وأول شرارة اشعلت هذا الصراع المبطن ، هو بعد أن اجتمع
الأوربيين بعد انتهاء الحرب الباردة مباشرة في روما ، وذلك لوضع استراتيجيتهم الأمنية بعد الحرب الباردة ، وكان اقتراحهم كالتالي ( المطالبة بحل حلف الناتو ، لأن العدو الشيوعي قد
زال ولم يعد للناتو أي مبرر للاستمرار 0 في حين الأوربيين يتحدثون فيما بينهم عن ضرورة إنشاء منظومة أوربية للدفاع مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية ) 0
وكذلك روسيا الاتحادية لم تعد ترى أن هناك مبرراً لاستمرار حلف الناتو ، وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة ، وانحلال حلف وارسو 0 وقدمت روسيا احتجاجاً على انضمام
دول شرق أوربا للناتو لأن ذلك يشكل خطراً عليها ، وخاصة أن هذه الدول كانت من ضمن رابطة الكوميكون وحلف وارسو السابقين 0 وقدمت روسيا احتجاجاً على الحرب التي شنها الناتو
بقيادة الولايات المتحدة ضد صربيا ، وخاصة بأن العرب تجمعهم مع الروس عرقية واحدة ممثلةً بالسلافيين ، ومذهب ديني واحد ممثلاً (بالارثوذكس المسيحي) 0
ويضاف إلى ذلك بأن هناك آراء أتت من أمريكا تؤيد تفكيك حلف الناتو ، وربما من أشهرها رأي المؤرخ الأمريكي الشهير جورج كنان يقول بأن ” استمرار الحلف يعتبر أسوأ
خطأ أمريكي بعد الحرب الباردة ” ( آل ثاني ، البلقان ) 0
ولكن كل الصراعات لتقليص دور الاتحاد الأوربي ، أو دور حلف الناتو باءت بالفشل ، فنجد بأن الحصانين يتسابقان في نفس الميدان ، بل وفي نفس خط السباق ، وتصورنا
لذلك هو استراتيجية التمييع التي تحاول أن تنفذها الولايات المتحدة ضد الاتحاد الأوربي ، ويقابل ذلك استراتيجية الإصلاح والوحدة التي يمارسها الاتحاد الأوربي لبلورة هدفه الاستراتيجي
وهو الولايات المتحدة الأوربية 0
بالنسبة للاتحاد الأوربي ، نجده تجاوز مرحلة مفهوم اتحاد اقتصادي ، رابطة سياسية ، سوق موحدة ، منطقة تجارية 0 المذكور كله يمثل الكونفدرالية الأوربية 0 ولكن الحلم
الأوربي الحديث الذي بدأ يقترب من الحقيقة هو أن أوربا بدأت تقترب من شخصية اعتبارية واحدة 0 وذلك من خلال الهيكل الدستوري الذي يكلف عليه جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي
السابق 0 وهذا الهيكل الدستوري المقترح هو كالتالي
1- أن يكون هناك رئيس موحد لأوربا من المجلس الأوربي ليحل محل الرئاسة بالتناوب المتبعة حالياً 0
2- أن يكون هناك سياسة خارجية وأمنية موحدة لكل أوربا 0
3- إنشاء مجلس نيابي لشعوب أوربا يلتقي فيه مندوبي البرلمانيات الأوربية الوطنية مع مندوبي البرلمان الأوربي 0
4- أن يُسمح للدولة العضو أن تترك الاتحاد الأوربي متى شاءت ، وهو بند لم يتوفر من قبل في الاتفاقيات السابقة ، وهذا البند يقضي على آراء المشككين في قدرة أوربا على
الصمود على جانبي المحيط الأطلسي ( الوطن ، العدد 2627 ) 0
وحتى قبل هذا الدستور المقترح ، ما حققه الاتحاد الأوربي الآن يفوق كثيراً ما حققته دولاً قُطرية صغيرة ، فدول الاتحاد الأوربي الخمسة عشر ( بإستثناء بعض البنود لم
تنطبق على بريطانيا ) يوجد فيما بينها الآن عملة موحدة ، وآلية موحدة للاتحاد الجمركي ، وتنسيق اقتصادي ، وحرية حركة لرؤوس الأموال ، واحترام لحقوق الإنسان، والديمقراطية
الليبرالية ، والتنسيق الأمني ، وفوق ذلك كله حرية التنقل في الاتحاد الأوربي 0
وفي أكتوبر 2002م تنفس الأوربيون الصعداء ، فبعد الموافقة الايرلندية الواسعة على اتفاقية نيس بات بتوسيع الاتحاد الأوربي من 15 إلى 25 دولة ، إلا في حال إنسحاب
أحد المرشحين في اللحظة الأخيرة ، أمراً محسوماً ( الوطن ، العدد 2606 ) 0 وذلك يعطي احتمال كبير للسماح بمشاركة الأعضاء الجدد في الانتخابات الأوربية في يونيو 2004م كدول
كاملة العضوية في الاتحاد الموسع ( الوطن ، العدد 2606 ) 0
الوحدة الأوربية تمثل الاقتراب من حلم السلف الفرنسي لأوربا ، وخاصة في عهد الجمهورية الخامسة ( الديجولية ) حيث كان يحث ديجول على بناء أوربا أوربية تماماً ،
والتقرب من ألمانيا الاتحادية ، ورفض ديجول بريطانيا في المجتمع الاقتصادي الأوربي، لأنه كان يعتبرها الفرس الذي تمتطيه الولايات المتحدة ( الخليج ، العدد 8559 ) وبالفعل بريطانيا
الآن في الأتحاد الأوربي من أكثر المعرقلين لمضي الأتحاد الأوربي نحو الوحدة ، لأن استراتيجيتها السياسية الخارجية قائمة على محورين الأول المحافظة على شخصيتها السيادية
القطرية 0 والثاني المحافظة على تحالف ثنائي خاص مع الولايات المتحدة الأمريكية 0 وذلك يعتبر إحدى أهم العراقيل التي تساهم في تمييع الأتحاد الأوربي 0
أما بالنسبة للمشككين في إمكانية تحقيق أية وحدة أوربية وعلى رأسهم كيسنجر ( وزير الخارجية الأمريكي السابق ) فيقولون بأن أوربا منذ القرن السابع عشر الميلادي وهي
تعيش ويلات الحرب ما بين القوى الأوربية المتناحرة ، وحسَب رأيهم بأن أوربا خاضت حرب 100 عام ، وحرب 30 عام ، وحرب 7 أعوام ، وحرب الطموح الفرنسي والنمساوي
والعثماني ، والبسماركي ( الألماني ) ، وانتهت بحربين عالميتين في القرن العشرين الميلادي ، وحسب رأيهم لم تنعم أوربا بالسلام إلا بعد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب
العالمية الأخيرة مع دول الحلفاء ، وساهمت في النصر الأوربي على دول المحور 0 وكذلك استطاعت أمريكا بدعمها لأوربا من ناحية أمنية من خلال حلف الناتو ، ومن ناحية اقتصادية من
خلال مشروع مارشال إلى ايصال أوربا إلى ما وصلت إليه الآن 0 وفي رأينا بأن هذا العرض يرافقهُ شيء من الصواب ، ولكنهُ لا يمثل الحقيقة كاملةً ، فساعة الزمن متحركة بالنسبة للأمم
، والدولة القطرية ، وحتى الكتلة الإقليمية تمر بعدة مراحل زمنية متعاقبة مثل الطفولة والمراهقة والشباب والنضج والشيخوخة أو التجديد ، ونحن نرى بأن أوربا وصلت إلى مرحلة
التجديد في الألفية الثالثة تعتمد على قيام التكتلات بأنواعها المختلفة ، أو حتى قيام دول كبرى جديدة متحدة ، وبالنسبة لأوربا يجب أن لا ننسى بأنها سبق أن توحدت أو توحد اجزاء منها في
عصور مختلفة ، وربما من أهمها الوحدة الأوربية في عهد شارلمان قبل 1000 سنة تقريباً 0
ولكن الولايات المتحدة لها رأياً آخر ، ونرى بأن أكثر من يمثل هذا الرأي تطرفاً هنري كيسنجر عندما يقول ” يتعين على أولئك الذين يسعون إلى الوحدة عبر مواجهة مع
أمريكا ، أن لا يخدعوا أنفسهم بالاعتقاد بأن أمريكا سوف تظل سلبية عندما تتعرض سياستها للتحدي بوصفها قضية مبدأ ، وعاجلاً أم آجلاً سوف تجبر على الدفاع عن مصالحها ، وعندئذ
ستعود دول الغرب مجدداً إلى الطريق التي أدت إلى تدميرها مرتين في جيل واحد ” ( كيسنخر ، ص47 ) 0
ونعيد القارئ الكريم إلى النقطة التي نبهنا لها في بداية الموضوع ، فمع النمو المتسارع لأوربا كما ذكرنا سلفاً ، نجد بأن حلف الناتو ينمو بوتيرة متوازية معه 0 ففي براغ
العاصمة التشيكية نوفمبر 2002م اختتمت أعمال أول مؤتمر للناتو يعقد هذا القرن ( 21 ميلادي ) ، وكان من أبرز قرارات هذا المؤتمر ضم سبع دول أورببية شرقية إلى أسرة الحلف مما
يرفع عدد الأعضاء إلى 26 عضواً بدلاً من 19 عضواً سابقين ، وهذه الدول هي نفسها الدول التي يخطط الاتحاد الأوربي لضمها إليه 0 وكذلك أوصى الناتو ببناء قوات الانتشار السريع
وذلك يشكل ازدواجية مع التصور الأوربي لقوات الانتشار السريع ، وحتى لو سمحت أمريكا للاتحاد الأوربي بتأسيس قوة أوربية للانتشار السريع ستجد أوربا نفسها في ازدواجية مقيتة تميع
الدور الأوربي في أوربا ، لأن نفس الدول الأوربية الموجودة في الناتو لقوة الانتشار السريع ، ستكون نفس الدول الموجودة في الاتحاد الأوربي للانتشار السريع تقريباً 0 ونلاحظ بأن
المؤتمر فتح الباب لجميع الدول الأوربية الراغبة والقادرة على الالتزام بمسؤوليات العضوية بموجب المادة 10 من معاهدة واشنطن ، أما بالنسبة لغير الأوربيين فيرى المؤتمر أنه لابد من
ايجاد حلول مقنعة من كل الحلفاء على قضية الاشتراك من قبل الحلفاء الغير أوربيين لانجاز شراكة استراتيجية أصيلة 0 نلاحظ هنا بأن الناتو يهتم أولاً بجميع دول أوربا لكي تصبح تحت
مظلة الناتو ، وبمعنى آخر تحت المظلة الأمريكية بطريقة مباشرة ، ويُصَعب الانضمام بالنسبة للدول الغير أوربية ، ولكن ذلك لا يعني بأن الناتو لن يسعى في المستقبل القريب إلى ضم دول
أخرى غير أوربية ، ففي إحدى بنود البيان الختامي يقول ” نؤكد على أن الأمن في أوربا ، مرتبط بشكل وثيق بأمن واستقرار منطقة البحر المتوسط ، ولذا نحرص بشكل كبير على مراعاة
الأبعاد السياسية والعلمية لجوار البحر المتوسط كعنصر مكمل للحلف وموقفه التعاوني في مجال الأمن ” 0
ولدينا ملاحظة فنية دقيقة على بيان الناتو ، فقد اختار حلف الناتو بلجيكا لكي تكون مقر القيادة الاستراتيجية للحلف ، والمقر الآخر في الولايات المتحدة ( 0 ونفس المقر هو
مقر للاتحاد الأوربي ، وذلك سوف يؤدي إلى ازدواجية مكانية في وظيفة بروكسل هل هي مدينة تؤدي وظيفة فيدرالية للاتحاد الأوربي ؟ ، أم هي مدينة تؤدي وظيفة كونية لحلف الناتو ،
علماً بأن معظم أعضاء الاتحاد الأوربي هم أيضاً أعضاء في الناتو ؟ ( الشرق الأوسط ، العدد 8761 ) 0
وأيضاً من بنود هذا البيان النقاط التالية أن التزامات الحلف تتضمن المهام للأمنية الأساسية ، والقيم الديمقراطية المشتركة وفقاً للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة ( 0
وكذلك اشتمل البيان الختامي على التنسيق ضد الارهاب وأسلحة الدمار الشامل ) ( الشرق الأوسط ، العدد 8761 ) 0
نظرتنا الشمولية لهذه النقاط تعطينا الصورة بأن الولايات المتحدة تريد تمييع دور الاتحاد الأوربي كوحدة سياسية أولاً ، وثانياً سوف تسعى إلى عولمة العالم كله تحت فيدرالية
واحدة ذات جناحين رئيسيين
1- الناتو ويمثل الحزام الأمني لعولمة العالم 0
2- الأمم المتحدة ومعها ( منظمة التجارة العالمية ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ) وتمثل النظام الدستوري والإداري والفني لإدارة العالم0 على أن
تكون عقلة الحطام لهذين الجهازين العالميين موجودة في البيت الأبيض في واشنطن ، وذلك يمثل استراتيجية عولمة العالم الامبريالية 0
وللمحافظة على استراتيجية عولمة العالم وتمييع الاتحاد الأوربي ، نلاحظ بأن الولايات المتحدة مارست ضغوطاً متنوعة على الدول الأوربية في كوبنهاغن لحملها على تحديد
موعد لقبول تركيا من ضمن الاتحاد الأوربي ( الشرق الأوسط ، العدد 8767 ) ويبدو بأن الضغوط الأمريكية بدأت تأتي بأكُلها ، وذلك عندما قرر الأوربيين ( أن يبدأ الاتحاد الأوربي
المفاوضات لإنضمام تركيا في عام 2004م ) ( الوطن ، العدد 2659 )0
ولكن هناك شكوك كبيرة في قبول تركيا في الاتحاد الأوربي ، وربما من أقوى الجهات الرافضة لإنضمام تركيا للاتحاد الأوربي هو عراب السياسة الأوربية ( جيسكار ديستان
الرئيس الفرنسي السابق ) في حديثه للوموند الفرنسية قال ( انضمام تركيا يعني نهاية الاتحاد الأوربي ، وحسب قوله بأن تركيا ليست بلداً أوربياً ، وعند انضمامها ستصبح أكبر دولة في
الاتحاد ، وسوف تتمتع بأكبر كتلة برلمانية ، والأهم من ذلك أن عاصمة تركيا ليست في أوربا ، و 95% من سكانها يعيشون خارج أوربا جغرافيا ، إن الاتفاقية حول مستقبل أوربا تركز على
25 عضواً زائد اثنين ، ويقصد بالاثنين بلغاريا ورومانيا ) ( الوطن ، العدد 2624 ) 0 ويضيف ديستان قائلاً ( في غداة بدء المفاوضات مع تركيا ستتلقون طلباً مغربياً 00 إلخ ) ( الوطن ،
العدد 2624 ) 0
طبعاً ديستان ما لم يستطع ذكره هو بأن تركيا 99% من سكانها هم من المسلمين، وذلك يختلف مع استراتيجية الوحدة الأوربية 0 وما قاله ديستان في نوفمبر 2002م هو ما
قلناه في دراسة سايكس بيكو 2002 ( نشرت في الراية أغسطس 2002 ، وفي الاهرام العربي سبتمبر 2002م ) 0
والهدف الأمريكي من الاصرار على إقحام تركيا في الاتحاد الأوربي ، هو لتمييع استراتيجية نشأة الولايات المتحدة الأوربية ، ونجد أن بريطانيا الحليف الاستراتيجي للولايات
المتحدة ، هي الدولة الكبرى الأوربية الوحيدة التي تسعى بطريقة دؤوبة لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي 0
وتوجد مقولة مشهورة لإحدى عمالقة السياسة الأوربية ، المستشار هلموت كول عام 1999م قال ” الاتحاد الأوربي لابد أن يظل مسيحياً ” ( الشرق الأوسط ، العدد 8705 )
0
وإلى اللقاء دائماً إن شاء اللّه ،،،