بسم الله الرحمن الرحيم
24/6/2004
لن نأتي بجديد عندما نقول بأن الحصار المفروض على العراق منذ أكثر من عشر سنوات ، هو نفسه الحصار المفروض على كوريا الشمالية منذ نصف قرنٍ من الزمان تقريباً .
ولكننا نعتقد بأننا لن نكون موضوعيين إذا أجرينا مقارنةً بين العراق وكوريا الشمالية من حيث العقوبات الدولية . فالعراق منذ تحرير الكويت في فبراير1991 م، حُرم بشكل شبه كلي من ممارسة حقه السيادي كدولة ، ويتمثل ذلك من الناحية القُطرية بخط حظر الطيران العراقي 35 ْ شمالاً ، وكذلك حظر القوات العراقية إلى الجنوب بنفس درجة الخط المذكور ، وأيضاً في الشمال توجد منطقة الإستقلال الذاتي للأكراد ويطبق عليها نفس إجراءات الخط المذكور اعلاه ! ، وكنتيجة لذلك حدثت بعض جيوب التمرد في الجنوب ، وكذلك عندما تحرر الأكراد في الشمال من سلطة
الدولة أدى ذلك إلى صراع شرس ما بين الأكراد أنفسهم للسيطرة السياسية على المناطق الكردية ، مما أدى إلى تدخلات اقليمية من دول الجوار في المناطق العراقية الشمالية إما لملاحقة بعض الثوار الأكراد ، أو لدعم الفصائل التي تعتقد دول الجوار بأنها سوف تخدم مصالحها أو ترسخ بعض أطماعها الإقليمية ! .
والأمر المدهش في الشأن العراقي بعد انتهاء حرب 1991 م هو فرض الحظر الإقتصادي على العراق ، وهو يعتبر تجاوزاً لجميع المعاهدات الدولية ، فهذا الحظر الإقتصادي والتجاري بما أن العراق دولة معتدية في حرب الخليج كان يجب أن يركز على منع العراق من استيراد تكنلوجيا وخبراء اسلحة الدمار الشامل ، وتحديد حجم معين للأسلحة التقليدية العراقية واخضاعها للرقابة الدورية ، وتحديد حجم القوات المسلحة العراقية من حيث عدد الأفراد … الخ . لكن المفجع في الشأن العراقي هو بأن الرقابة شملت تقليص الحصة العراقية من استيراد حليب الأطفال ، والأدوية ، والغذاء ، والالآت ، والتكنلوجيا ذات الإستخدامات المدنية !. وهذا ما لم يحدث لأية دولة في العالم إلا للعراق ويعود ذلك لأنها دولة عربية وتهدد أو بالأحرى تستخدم لهجة عنيفة ضد اسرائيل !! .
والشيئ المخزي الآخر هو عندما قامت فرق التفتيش الدولية التي يفترض أن تكون تحت مظلة الأمم المتحدة ، والمتواجدة في العراق منذ نهاية الحرب في فبراير 1991 م إلى عام 1998 م بتسريب معلومات إلى السي أي إيه ( وكالة المخابرات الامريكية ) وبإعتراف بعض أعضاء الفريق الدولي للتفتيش بتسريب هذه المعلومات ! . والنتيجة حدوث خلاف ما بين العراق وفريق التفتيش الدولي مما ادى إلى خروجهم من العراق ، وقيام الولايات المتحدة وحليفاتها التقليدية بريطانيا بشن هجوم
على العراق دون سابق انذار ، والغريب في هذا الهجوم بأنه كان مركزاً لهدم البنية التحتية التي قام العراق بإصلاحها بعد حرب عام 1991 م ! .
والأدهى والأمر من ذلك أن ما يحدث للعراق لم يحدث على ما نعتقد لأية دولة على مر التاريخ ، ويتمثل في أن العراق منذ إنتهاء حرب 1991 م إلى 2003 وهو يتعرض لإعتداءات امريكية شبه يومية غير مبررة في مناطق مختلفة من العراق ، وإلى الآن لم نعرف ما هي الأسباب من وراء ذلك ؟؟ .
وبعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 م على الولايات المتحدة ، وبروز ما يسمى بالحرب على الإرهاب وكان من أول نتائج ذلك هو الدك والتحطيم الذي تعرضت لهُ افغانستان المسلمة دون نتائج ملموسة تذكر ، وهو ما يذكرنا بتاريخ الملف العسكري الامريكي على كلٍ من كوريا وفيتنام وكمبوديا والعراق دون أية نتائج ايجابية تحققت لهذه الشعوب ، بل أن الأوضاع لديهم بقيت معلقة واسوأ حتى من قبل الحرب . ومنهم من يعاني منذ خمسون عاماً ونخشى بأن تبقى الأوضاع في هذه الدول المنكوبة على ما هي عليه لعقوداً قادمةً من الزمن ، إلى أن تستطيع الولايات المتحدة من تحقيق استراتيجيتها في هذه الأقاليم السياسية ، أو إعادة صياغته وتشكيل نظام دولي جديد ! . المذكور سلفاً يبين لنا بأن العراق حُرم من تحقيق أية اصلاحات بعد حرب 1991 م ، سواءً كانت في التنمية الإقتصادية ، أو البشرية ، أو اصلاحات البنية التحتية ، أو ترسيخ اجراءات أمنية خاصة به ! … الخ ، وحرم حتى من حق التفاوض مع الجهات المعنية بشأنه وهي التحالف الأنجلوامريكي ! .
وفي عام 2002 م بعد أن حددت الإدارة الامريكية محاور الشر وكان من ضمنها العراق وكوريا الشمالية ، بدأت التهديدات الامريكية تأخذ منحناً آخر نحوالعراق ومنطقة الشرق الأوسط وهو التحرك الجدي لامريكا لحشد الرأي العام الدولي لمباركة قيام امريكا بتغير نظام الحكم في العراق ، أو ربما ينتهي الأمر بتغير خارطة العراق والمنطقة ، وأنظمة الحكم في المنطقة ، ولكن في هذه المرحلة شجبت معظم الدول العربية هذه الخطوة ! .
وعندما سُئل رامسفيليد عن رأيه في أن الأنظمة العربية ترفض هجومكم القادم على العراق ؟ قال رامسفيليد : ” ما يقوله الزعماء العرب المعتدلين امامكم شيئ ، وما يقولونه عندما نجتمع معهم شيئٌ آخر ” !! .
ولكن موقف فرنسا والمانيا وروسيا كان ايجابياً مع القضية العراقية ، مما جعل امريكا وبريطانيا تلجأن إلى الأمم المتحدة لإصدار قرار 1441 وهو ينص على عودة المفتشين الدولين عن اسلحة الدمار الشامل إلى العراق ، ويقدموا تقريراً كاملاً عن برامج التسليح العراقية في يناير / 27 / 2003 م ، وأن أية خطوة بعد هذا التقرير سواءً بلإيجاب أو بالسلب يجب أن يصدرها مجلس الأمن الدولي ! . وبالفعل وافق العراق على عودة المفتشين واستلموا وثائق تشتمل على إحدى عشر ألفٍ من الصفحات عن برامج التسليح العراقي ، وكان يفترض أن تذهب هذه الوثائق إلى مجلس الأمن الدولي ، ولكن بقدرة قادر انتهى بها المطاف عند الجهات المختصة الامريكية !! .
ونحن الآن ننتظر ما هو السيناريو المعد بعد ذلك ؟ .
نلاحظ بأن الأزمة التي اصطنعتها كوريا الشمالية يتم التعامل الدولي معها بكل احترام سواءً للشعب الكوري ، أولقيادته ، أوللمحيط الإقليمي لكوريا الشمالية . وهذا ما نفتقده نحن العرب في حال تعامل امريكا مع القضايا الشرق أوسطية سواءً كانت في العراق ، أو فلسطين ، أو في أي قطرٍ عربي آخر ! .
ونجد بأن بداية الأزمة التي إصطنعتها كوريا الشمالية هي إلغاء العمل بإتفاق جنيف 26 / 2 / 1994 م ، والذي قبلت بموجبه تجميد مفاعلها النووي مقابل شحنات نفط إلتزمت بها إدارة الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون .
وتبرير كوريا الشمالية لإلغاء المعاهدة المذكورة اعلاه ، هو أن الولايات المتحدة الامريكية تخلت من جانبها عن التزامها بتزويد كوريا بالنفط لتعويضها عن الكهرباء التي يوفرها لها المفاعل النووي . [ الوسط العدد 571 ] .
وكذلك ذكر مراقبين الأمم المتحدة بأن كوريا الشمالية قامت برفض وجود قواعد عسكرية تحكم المنطقة المنزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين [ الوطن العدد 2683 ] ، وهذه المنطقة تمثل خط الهدنة بعد إنتهاء الحرب الكورية الأمريكية منذ خمسون عاماً وأدت إلى فصل كوريا إلى كوريتين .. جنوبية رأسمالية ، وشمالية شيوعية ! .
وهذا يعتبر اعلاناً للحرب من كوريا الشمالية بعد خرق خط الهدنة ! . بل أن كوريا الشمالية كانت اشرس من ذلك عندما هددت واشنطن بالدمار إذا شنت هجوماً نووياً بسبب برامج بيونغ يانغ للأسلحة النووية [ الوطن العدد 2683 ] . وكانت كوريا الشمالية قد شجبت نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي الذي تنوي أمريكا نشره وتشغيله في عام 2004 م [ الوطن العدد 2683 ] .
كوريا الشمالية فعلت هذا كله والولايات المتحدة الأمريكية لم تحرك لها ساكناً ، والعراق والعالم العربي يتعرض للقصف الأمريكي ، وإلى التهديد بتغيير الجغرافيا السياسية العربية ، وإلى تغيير الأنظمة .. وبشكل شبه يومي ، كل هذا والعرب جميعهم مسالمين ومحتفظين بالصمت ، بل ويرسلون الوفود الواحد تلو الآخر لإرضاء أمريكا وتقديم التسهيلات لها .
أما الصراع الحديث الذي تقوم به الأنظمة العربية يقوم على التالي :
من هو الصديق الذي تثق فيه أمريكا أكثر من الآخر ؟ ، ومن هو الصديق لأمريكا الذي يقدم لها تسهيلات أفضل ؟ ، وبعد ذلك يتم شن حملات إعلامية سمجة فيما بينهم لكي يثبت كل واحد منهم بأنه هو الشريف والآخرين عملاء !!! .
أما بالنسبة لكوريا الشمالية فوظفت هذه الأزمة من خلال مجموعة من المحاور منها ما هو استراتيجي ، وجيواستراتيجي ، وجيوبوليتيكي … الخ . وذلك محاولةً منها للضغط على أمريكا لكي تستمر في إمدادها بالنفط حسب إتفاق1994 م المذكور سلفاً .
وكذلك تم تصنيف كوريا عام 2002 م من ضمن محاور الشر ، وهناك بعض المخاوف بعد أن تنتهي أمريكا من العراق والعالم الإسلامي ، بأنها ستعود لممارسة الضغط الديبلوماسي والقمعي العسكري إلى أن تستجيب كوريا الشمالية للمطالب الأمريكية ! .
وخاصةً بأن بوادر العداء الأمريكي لكوريا الشمالية ظاهرةً للعيان من خلال رفض الحوار معها للوصول إلى إتفاق عدم إعتداء ، وكذلك التدخل الأمريكي في إنتخابات كوريا الجنوبية لمناصرة المرشح تشانغ الداعي إلى التصلب في العلاقة مع الشمال ، ولكن فاز في الإنتخابات المرشح الداعي إلى التعاون مع الشمال وهو روموهيون ، وفوق كل ذلك التصريح العنيف لوزير الدفاع الأمريكي الذي قال فيه بأن بلاده قادرة على خوض الحرب على جبهتين في آن واحد ، أي العراق وكوريا الشمالية . [ الوسط العدد 571 ] .
ويجب أن ننبه هنا بأن هناك من المراقبين ممن يتهم الولايات المتحدة الأمريكية بأنها وراء الأزمة الكورية .. وذلك لكي تثبت للعالم بأنها مهددة من دول
مارقة ! ، فبالتالي لابد لها من مواصلة برامجها في استراتيجية الدفاع الصاروخي حول أمريكا ! .
ونلاحظ بأن الأزمة أوالإستراتيجية الكورية إستطاعت بأن تأتي بأوكلها من ناحية جيوإستراتيجية بطريقة سريعة جداً ، ويتمثل ذلك عندما صرح الرئيس الكوري الجنوبي المنتخب روه موهيون قائلا : ” إن نجاح أو فشل سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بكوريا الشمالية ليس شأناً كبيراً بالنسبة للشعب الأمريكي ، ولكنها مسألة حياة أو موت بالنسبة للكوريين الجنوبين ، وبالتالي فإنه لابد لأي إجراء أمريكي أن يضع في إعتباره رأي كوريا الجنوبية ” . [ الشرق الأوسط العدد 8807 ] .
ومن الملاحظ أيضاً أن من أهداف الرئيس الكوري الجنوبي الجديد تصفية الوجود العسكري الأمريكي المرابط في الأراضي الكورية منذ أكثر من نصف قرن [ الوطن العدد 2979 ] ، وهذا يحفز جميع الإستراتيجين الأمريكان لمراجعة التصور الجيوبوليتيكي لشبه الجزيرة الكورية بشكل كلي ، وليس فقط للأزمة التي إصطنعتها كوريا الشمالية ! .
انظروا كيف تهز الأزمة التي في شبه الجزيرة الكورية الصغيرة ذات المساحة التي لاتتجاوز 221 ألف كم وعدد السكان الذي لايتجاوز 65 مليون نسمة ، كيان الولايات المتحدة الأمريكية ، علماً بأن شبه الجزيرة الكورية ليس لها أهمية جيوإستراتيجية كبرى من حيث الموقع ، أو الموارد الإقتصادية مقارنةً بالعالم العربي ذو المساحة التي تصل إلى 14 مليون كم ( أي أن كوريا تصل مساحتها إلى 1.5 %
فقط بالنسبة لمساحة العالم العربي ) وعدد السكان الذي يصل إلى 300 مليون نسمة (أي أن سكان كوريا يصلون إلى 21.6 % فقط بالنسبة لسكان العالم العربي ) ولكن الأمر المذل في العالم العربي بأنه لا يحرك ساكناً أمام الرغبات الأمريكية ، والأسباب تعرفونها جميعاً !! .
ونجد أن اليابان كذلك تطالب كوريا الشمالية أن تأخذ مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية على محمل الجد [ سنذكر ذلك لاحقاً ] ، وأكد وزير خارجية اليابان [ أنه يتعين على بيونغ يانغ أن توقف فوراً كل الإجراءات التي إتخذتها لإعادة إطلاق برامجها النووية ] . [ الشرق الأوسط العدد 8807 ] .
أما وكالة الطاقة الذرية فتعاملت مع الأزمة بحذر وطول نفس وكان قرارها [يدعو كوريا الشمالية إلى التعاون على وجه السرعة وبصورة كاملة مع الوكالة من خلال السماح بإعادة تنفيذ إجراءات الإحتواء والمراقبة في منشآتها النووية ، وعودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ] . [ الراية العدد 7549 ] .
وكذلك صرحت وكالة الطاقة [ إذا لم تلتزم كوريا الشمالية بالمذكور أعلاه ، فإن الوكالة ستقوم في هذه الحالة بتقديم تقرير إلى مجلس الأمن بخصوص عدم إلتزام كوريا الشمالية بالضمانات النووية ] . [ الراية العدد 7549 ] .
والملاحظة القوية بأن التصريح الأمريكي عاقل ومتزن ودبلوماسي في التعامل مع الأزمة الكورية ، بحيث قال الرئيس الأمريكي بوش اللإبن ” سبق أن قلت في كوريا الجنوبية أننا لاننوي إجتياح كوريا الشمالية ، إننا ننتظر منها أن تحترم واجباتها وإتفاقها معنا ، بأن لاتطور أسلحة نووية ” [ الشرق الأوسط العدد 8807 ] وهذا التصريح الأمريكي الهادئ هو ما نفتقده عندما تكون هناك أزمة في العالم
العربي والإسلامي ! . علماً بأن جميع مشاكل العالم الإسلامي لاتصل حتى إلى 1% مقارنةً مع الأزمة الكورية ! .
وفي الختام نتفق مع ما ذكره الكثير من المحللين وهو بأن علاقة كوريا الشمالية بالخارج ترتبط بتخليها عن برنامجها النووي ، وهذه الأزمة تثير المخاوف الدولية ، هل هي أزمة من أجل الحوار أم من أجل الإبتزاز ؟؟ ، ومهما تكن طبيعتها فإنها ستفيد بوش في مسألة الإستمرار في مشروعية الدرع الواقية وحرب النجوم .
إن العوامل التي ستتحكم في نهاية الأمر بالقرار الكوري الشمالي هي ثلاثة : الموقف الصيني ، والموقف الروسي ، وموقف الدعم المالي والإقتصادي ! [ الوسط العدد 571 ] ، ونضيف لهم رابعاً : الموقف الكوري الجنوبي والياباني !! .
ونختم بأننا نرجوا من القارئ الكريم لهذين الجزئين من هذا الموضوع ، أن يجري مقارنةً مابين إسلوب العرب في إدارة الأزمات والإستراتيجية العالمية في إدارة الأزمات !! .
وإلى اللقاء دائماً إن شاء الله