بسم الله الرحمن الرحيم
6/6/2004
قلنا في مقالة نشرت في الراية بتاريخ 14/12/2002م العدد (7525) “لإصلاح المؤسسة الصينية ، قام الحزب المركزي الشيوعي باستثمارات وإصلاحات اقتصادية ضخمة
منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، ونتج عن ذلك نمو الناتج المحلي الصيني بما يتراوح بين 9% إلى 8% سنوياً منذ منتصف التسعينيات والتوقعات تقول إذا استمر الصينيون بنفس
المعدل إلى عام 2015م فسيصبح الناتج المحلي الصيني يعادل أو يفوق الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية 0
وفي عام 2001م انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية ، واستفاد الصينيون من ذلك كثيراً بحيث استطاعوا خلال فترة زمنية قصيرة أن يصبحوا إحدى أهم عشر دول
مصدرة للسلع في العالم ، ولكن في النهاية أدرك الصينيون بأن كل عملهم سيذهب هباء منثورا ، وخاصة إذا بقي القلة مسيطرون على عجلة التنمية ، وتهميش وقهر الإنسان الصيني 0
والنتيجة كما رآها الجميع في نوفمبر 2002م عندما انسحب ديناصورات السلطة الصينية فاتحين الطريق إلى الإصلاحيين الجدد 0 حيث انسحب من الحزب الشيوعي جيل
بمن فيهم جيانغ زيمين الرئيس الصيني ، ورئيس البرلمان بينغ ، ورئيس الوزراء رونج، وثلاثة أعضاء آخرين من القيادة ، ودخل 180 عضواً جديداً للجنة المركزية للحزب ، وذلك يمثل
50% من أعضاء الحزب ولكن هناك تغييرات عقائدية في الحزب كانت تعتبر من المحرمات بالنسبة للحزب الشيوعي ، وذلك من خلال تعديل ميثاق الحزب الشيوعي بشكل يسمح بدخول
الرأسماليين إلى صفوفه ، مما أدى إلى استبدال الحزب الشيوعي الصيني بطليعة الطبقة العاملة ، بعبارة جديدة ، الحزب الشيوعي هو طليعة الطبقة العاملة الصينية والشعب الصيني
والأمة الصينية 0
وفي 18/3/2003م لفت نظرنا تحليل مشابه ومكمل للمذكور أعلاه لكلا من ويليام دوبسون وبول موني ونيكولاس لاروي تحت عنوان تكنوقراطية الشعب في نيوزويك العدد
144
أولا كان التقرير يركز على الجيل الرابع من السياسيين الصينيين ، ويرى التقرير بأن مهمة الجيل الرابع تنمية الإنسان وليس الجماد فقط ، فيقول التحليل ” يعتقد الكثيرون
بأن المزارعين والعمال في الصين قد يجدون في القيادة الجديدة حليفاً أوثق لهم ، ويعود ذلك إلى أنهم يركزون اهتمامهم على العمالة بدلاً من النمو والنمو فقط 0 في هذه المرحلة الأمر لا
يتعلق بأرقام إجمالي الناتح المحلي فحسب 0 بل إنهم يعيرون اهتماماً للشرائح المنسية من الناس ” 0
ثانيا من نتائج تنمية الجماد ( الناتج المحلي ) في الصين بأن الجيل الثالث ركز التنمية في المناطق الساحلية والمدن ، وترك المناطق الداخلية والريف 0 وقام الجيل الثالث
بتسريح نحو 30 مليون شخص من العاملين في المشروعات الحكومية خلال السنوات الخمس الماضية 0 وهناك تزايد في مشاعر الاستياء بين الفلاحين في البلاد والذين يقدر عددهم بنحو
800 مليون ؛ والذين تسببت مداخيلهم الراكدة في تقهقر أوضاعهم المعيشية ، وذلك جعل الجيل الرابع أمام تحدياً لتطوير المناطق الداخلية 0
ثالثاً ورغم النقد الذي يوجه للسياسة الصينية ، إلا أن السياسيين الصينيين يبقون أفضل من السياسيين العرب ، فالسياسي الصيني عندما يخطئ في إتخاذ القرار العملي أو
الدبلوماسي يؤدي فشله إلى إنسحابه من المسرح السياسي بطريقة مباشرة ، وحتى لو كان هذا الفشل بسبب هامش من المغامرة التي من الممكن أن يقع فيها أي متخذ قرار سياسي 0 فلا
يوجد مانع من أن يخوض السياسي لعبة المغامرة ، فإذا كانت إيجابية فيمكنه المواصلة لأنه أعطى هامش كبير من التفاؤول للمواطنين 0 ولكنه إذا فشل في المغامرة فيجب أن ينسحب من
الملعب لأن كل أعماله القادمة ، سينظر لها بهامش كبير من التشاؤوم من قبل جميع القطاعات الشعبية 0
ويدعم التحليل النقدي الذي قدمناه في البند الثالث أعلاه ، ما سوف يقوله دوبسون وآخرون لاحقاً عن تكنوقراطية الشعب وين ، رئيس الحكومة الجديدة في الجيل الرابع لمع
نجمه من خلال مغامرة في عام 1998م ” عندما تعرضت الصين لأسوأ الفيضانات التي عرفتها منذ عقود ، وكان على وين أن يتعامل مع منسوب الأنهار المرتفع 0 وبينما كانت المياه آخذة
في الأرتفاع بالقرب من إحدى البلدات ، كان على وين أن يواجه خيار صعب 0 فلو قام بنسف السد بالديناميت لكان ذلك سيؤدي إلى جرف الكثير من المنازل وإزهاق الأرواح 0 ولكن في
حال إنهيار السد جراء أرتفاع منسوب المياه فإن الدمار سيكون أكثر فداحة 0 في اللحظة الأخيرة قرر وين عدم نسف السد ، وبمعجزة توقف أرتفاع منسوب المياه وبقي السد سليماً 0 ويقول
التحليل ” لقد كان حاسماً وعمل بجد وأرتفع رصيده السياسي بين ليلة وضحاها ” 0 والآن أصبح وين رئيساً للوزراء فيقول التحليل ” إن نفوذه السياسي سيعتمد على كيفية تعامله مع
الأزمة التالية ؛ والسؤال هو متى ستأتي وليس ما إذا ستأتي ؟ ” 0
لكن ماذا عن ديناصورات السلعة العربية ؟ تحولت سيادة الدولة إلى جزء من أملاكهم الشخصية يهبونها لمن شاؤوا ، ويمنعوا منها من شاؤوا ، إلى أن تحولت الأوضاع في
العالم العربي إلى مأساوية 0
رابعاً يقول تحليل دوبسون وآخرون إن الجيل الثالث الصيني كانت استراتيجيته بأن بعض الناس لابد أن يصبحوا أغنياء أولاً ، إذا كان للصين أن تتطور بشكل ناجح 0 وهذه
الاستراتيجية ساعدت على انضمام أكثر من 300 مليون شخص إلى شريحة الطبقة الوسطى 0
المذكور أعلاه هو الأوضاع في الصين ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الأوضاع في العالم العربي ؟ 0
في مجموعة دراسات نشرت لنا تركز على الأوضاع في العالم العربي ومنها الوزن الاستراتيجي للعالم العربي نشر على حلقتين في الراية 31/3/2001م و 2/4/2001م ،
وفي كتابنا جيواستراتيجية العالم الإسلامي المنشور في أبريل 2002م ، وعزز دراساتنا التقرير القيم الصادر عن UNDP تحت عنوان ” تقرير التنمية الإنسانية العربية ( أغسطس 2002م
) ” 0
حتى لا نكرر أنفسنا لمعرفة إمكانات العالم العربي الضخمة ، بإمكان القارئ الكريم العودة إلى المراجع المذكورة أعلاه 0 فسيجد بأن إمكاناته الطبيعية والبشرية وموارده الاقتصادية ضخمة
، أفضل من إمكانات جميع الدول المتقدمة 0 ولكن لعدم وجود المؤسسات السياسية والإدارية المؤهلة والسليمة في العالم العربي ، أدى ذلك إلى انعدام الديمقراطية والمشاركة الشعبية ،
وبسبب انعدام الديمقراطية والمشاركة الشعبية والنزعة القطرية ، أصبح المواطن العربي مهمشاً في وطنه ، وهذا قتل عنده الانتماء والثقة بالسلطة 0 وذلك ليس بغريب ، تسلب جميع
حقوقه الإنسانية ، وتنهب جميع موارده ، ماذا تتوقع منه ؟ 0
والأغرب من ذلك الأنظمة المركزية مهما أخطأ أفرادها يبقون في السلطة ، وربما يستغرب الكثيرين ، عندما نقول بأن النظام العراقي في عهد الرئيس صدام حسين كان يجيد
لعبة سياسة التغيير ، والدليل بأنه استطاع أن يحقق نصراً دبلوماسياً على أمريكا في مجلس الأمن 0 وعندما اعتدت أمريكا من دون تفويض من مجلس الأمن ، هذا الاعتداء وضع التنظيم
الدولي على حافة الهاوية 0 فصدام رغم الهجوم الذي وجه إليه ، إلا أنه أفضل من كثير من الأنظمة ، في لعب سياسة تغيير الوجوه 0 فنلاحظ حقيبة الخارجية كان طارق عزيز يحملها عام
1990م عندما احتل العراق الكويت ، وبعد تحرير الكويت كانت العراق تحتاج إلى خطاب سياسي يختلف عن خطاب الاحتلال فأوكلت هذه الحقيبة للصحاف علماً بأن الحكومة العراقية هي
نفسها ، ولكن لابد من تغيير الأشخاص لأن لغة عزيز في وقت الاحتلال ، يجب أن تتغير بعد التحرير 0
وإذا كان نفس الشخص الذي يتحدث بلغة الاحتلال ، وبعد ذلك بلغة التحرير ، فهذا غير مقبول لأعلى المستوىات القطري ، ولا القومي ، ولا العالمي 0 ومن هنا تأتي سياسة
تغيير الوجوه 0
ونلاحظ أن الحكومة العراقية بعد اعتداء عام 1998م عليها ، استبدلت الخطاب السياسي بخطاب جديد ، ولكن لابد أن ينطق بواسطة شخص جديد ، فنقلت الحقيبة من عند
الصحاف إلى الحديثي ، علماً بأن كل الأشخاص ينتمون لنفس الحكومة المركزية العراقية 0
ولكن يؤسفنا بأن نقول لكم بأن النظام العربي حتى أسلوب لعبة تغيير الوجوه غير موجودة عنده ، وكانت النتائج في العالم العربي سلبية بشكل كبير ، ونذكر على ذلك بعض
المؤشرات
1- البطالة تزيد على 40% وإذا استثنينا دول مجلس التعاون الخليجي التي يبلغ عدد سكانها أقل من 10% من جملة سكان العالم العربي ، لوجدنا بأن نصيب الفرد العربي من
الناتج المحلي يقل عن 700 دولار ، وذلك المؤشر يعطينا معيار تحت خط الفقر 0
2- الإنتاجية الصناعية إنتاجية العامل الصناعي العربي هبطت كنسبة مئوية من المستوى المتحقق في أمريكا الشمالية بسعر الدولار الثابت لعام 1985م من 32% عام 1970م
إلى25% عام 1980م ومن ثم إلى 19% في عام 1990م0
3- معدل الأمية ونقصد هنا من لا يقرأ ولا يكتب وتبلغ نسبتهم 43% من جملة سكان العالم العربي البالغين ويؤسفنا أن نقول لكم بأن حتى المؤهلين من أبناء العالم العربي ، لم
تتح لهم الفرصة للمساهمة في تطوير البحث العلمي ، بحيث بلغ معدل الانفاق العلمي نسبة إلى الناتج المحلي الاجمالي 14ر% فقط في العالم العربي عام 1996م ، مقابل 52ر2% عام
1994م لإسرائيل ، و 9ر2% لليابان ، و 62ر1% لكوبا 0 أي من حيث النسبة لا يبلغ حتى 5% مما تنفقه اليابان ، ولا حتى 9% مما تنفقه كوبا على البحث العلمي 0 ودليل على فقر
المكتبة العربية بلغ مجموع الكتب المترجمة إلى اللغة العربية منذ عصر المأمون وحتى الآن نحو مئة ألف كتاب 0 وهو ما يوازي تقريباً ما تترجمه أسبانيا في عام 0 علماً بأن أسبانيا تعتبر
متخلفة حسب المعايير في الأتحاد الأوربي 0
4- المياه قد صنف البنك الدولي 22 بلداً تحت خط الفقر المائي ، والتي تعرف بالبلدان التي يقل نصيب الفرد فيها عن 1000 متر مكعب من المياه سنوياً 0 ويوجد ما بين
الإثنين والعشرين بلداً هذه خمسة عشر بلداً عربياً 0 وقدر البنك أن متوسط موارد المياه المتجددة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصنفة ضمن هذه الفئة ، ستنخفض عن مستواها
في عام 1997م الذي كان يزيد قليلاً عن 1000متر مكعب سنوياً للفرد إلى 740متر مكعب سنوياً في عام 2015م0
هذه المؤشرات تبرز لنا الأوضاع المأسوية في العالم العربي ، ولكن دون إصلاحات دستورية حقيقة ، وإعطاء المؤهلين من أبناء الوطن العربي الفرصة للمشاركة وبناء
أوطانهم ، فسوف تكون الحالة أسوأ مما هي عليه الآن 0
وهذه الإصلاحات لن تأتي إلا بإرادة قوية من متخذي القرار في العالم العربي ولو فعلوها فسيسجلها التاريخ لهم 0 لأنهم انقذوا النظام العربي قبل إنهياره ، وإذا لم يفعلوها
فالنظام أصلاً متجهاً إلى الانهيار 0
وإلى اللقاء دائماً إن شاء اللّه ،،،