صدام الحضارات

بسم الله الرحمن الرحيم

6/6/2004

في أول صدمة يتعرض لها الغرب ذو الحضارة الليبرالية في القرن الواحد والعشرين ، توجهت أنظار متخذي القرار في الغرب إلى مناطق الصراع الحضاري الأزلي ما بين الشمال والجنوب ، والغرب والشرق 0 وهذه النطاقات نجدها على مر التاريخ بالنسبة للغرب يجب أن تبقى مناطق تحت نفوذه ، والأمثلة على ذلك كثيرة وتعود إلى عمق التاريخ البشري

1- ارسطو الأغريقي بنى سياسته على التصورات التي وضعها اسلافه مثل هيتاكيوس وبارمينيدس ، وقال أن الأقليم المعتدل الذي يسكنه الأغريق ، هو الأقليم الذي يحمل في طياته بذور القوى ( رياض ، جغرافيا سياسية ، ص 71 ) 0
2- استرابر الروماني يقول أن أوربا هي أكثر القارات الثلاث ملائمة للنمو والازدهار الفكري والاجتماعي ( رياض ، 72 ) 0
3- ويقول جويه الفرنسي في التاريخ الحديث ، أن قارات العالم تنتظم في ثلاثة مجموعات ، فآسيا كانت مهد الحضارة ، وأوربا المكان الذي نضجت فيه الحضارة، وأخيراً أمريكا الشمالية هي نقطة النهاية العظمى لهذه العملية الحضارية ، وكذلك أعرب في أسلوب عنصري راديكالي بأن وحدة السلالة وروابط الديانة المسيحية ، والقرب المكاني هي الأسس التي تجذب وتضع وحدة القارات الشمالية ( رياض ، 76 ) 0
4- وفي تاريخنا المعاصر نجد ماسويل هنتنغتون يقول بعد نهاية الحرب الباردة بأسلوب توكيدي ، بأن صراع الحضارتين الغربية والإسلامية ، مستمر منذ 1300 سنة ، وحسب رأيه فبعد صعود الإسلام ، انتهى اكتساح العرب للغرب والشمال في توربواتيه ( بلاط الشهداء ) عام 732م ( الراية ، العدد 7103) 0

وفي رأينا العلمي نجد بأن هنتنغتون أخطأ الصواب ، فالحضارة التي وصلت إلى بلاط الشهداء إسلامية وليست عربية ذات طابع صحراوي أولاً ، وثانياً  أن المد الإسلامي لم يتوقف عند بلاط الشهداء لأنها كانت موقعة معركة واحدة وليست حرباً شاملة ، ثالثاً  الجميع يعرف بأن الأديان لا تعرف حدوداً بيئية ، والإنسان أيضاً في مجموعه لا يعرف حدوداً بيئية لانتشاره ، بل هو دائم التكيف مع الايكولوجيات الطبيعية المختلفة ، والدليل على ذلك معظم الانجازات المكانية للأمة الإسلامية تحققت بعد ( توربواتيه ) ، فالمسلمين أصبحوا 8% من سكان أوربا ، و 4% من سكان الولايات المتحدة ومثلها استراليا ، وأفريقيا أصبحت قارة إسلامية من الناحية العددية بحيث تصل نسبة المسلمين فيها إلى 60% من سكانها ، أما أم قارات العالم آسيا تصل نسبة المسلمين فيها إلى أكثر من 34% ، وبالنسبة لكوكب الأرض ككل تبلغ نسبة المسلمين 25% من سكانه ، ويسيطرون على 25% من مساحته  ( راجع آل ثاني ، جيواستراتيجية العالم الإسلامي في الطريق للنشر ) 0

إذاً بعد السرد التاريخي الموجز أعلاه ، نجد بأن قارة صراع الحضارات عند الغرب هي فكرة تراكمية منذ 25 قرناً تقريباً  إذاً فليس من المستغرب بعد أحداث أيلول الأسود الأمريكي أن تكون آراء بعض القادة الغربيون مناصرة للصراع الحضاري بين الغرب والإسلام ، فعلى سبيل المثال

1- بوش الابن يقول  بأن هذه الحرب حرباً صليبية 0
2- بريلسكوني رئيس وزراء ايطاليا ، يقول بأن الحضارة الغربية أفضل من الحضارة الإسلامية 0
3- البارونة تاتشر تقول ما يحمل في طياته معنى أنه بات من المؤكد على المسلمين أن يكفروا عن ذنوبهم ويعتذروا  0

ولكن مفترق الطرق الحقيقي ، هل الغرب تناسى أنه مسيطر سيطرة شبه كلية على امكانات عالم الجنوب منذ القرن السادس عشر الميلادي تقريباً 0 والفجوة الحضارية موجودة ومستمرة ودائمة الاتساع ما بين المعسكرين 0 ولكن الهاجس الحقيقي بالنسبة للغرب هو السيطرة السياسية على إدارات عالم الجنوب ، ومن خلال النفق السياسي يخضع للغرب جميع الامكانات الاستراتيجية في عالم الجنوب مثل ( المواد الأولية ، الأسواق ، الأيدي العاملة 00 إلخ ) 0 وذلك لأن الغرب يعتقد بأن أبناء الجنوب سوف يتشربوا المذهب الليبرالي العلماني تدريجياً إلى أن تنسخ جميع حضارات الجنوب  0 ورغم السيطرة الكلية للغرب على مقدرات الدولة في الجنوب ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطوروا أو لم يريدوا أن يطوروا نموذج الدولة الراعية كما هو موجود في عالم الشمال 0 وبالتالي ابتكر الغرب أشكالاً مدجنه للدولة في الشرق مثل الدولة الأبوية ، والدولة الراعية ، والدولة الشمولية ، ولكن هذا التدجين يحمل شعارات هولامية براقة لمفهوم الدولة ، ولكن هذه الشعارات عند التطبيق نجدها مغايرة للواقع  0

وأعتقد بأننا لا نحتاج إلى جهد كبير لنختبر هذه الشعارات ، فالصورة الحقيقية للدولة ذات المؤسسات البنيوية القوية ، والدولة ذات التركيب السياسي الهش تتضح عند الأزمات 0 فأزمة أيلول الأسود الأمريكي ، وتلا ذلك أزمة تشرين أول الأسود الإسلامي والمتمثلة في القصف الذي تتعرض له أفغانستان من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بأحدث ما توصلت له التقنية من أسلحة الدمار الشامل في عالم الشمال 0 ومساندة الإعلام الغربي البارع في تهيئة الرأي العام لأهمية هذه الحرب ، مما ساعد الإدارات الغربية في حشد صوت الشعب خلفها لمباركة القيام بهذا العمل الانتقامي ضد فاعلية الغير معروفين حتى الآن ، ولم يتم تقديم أدلة لتعريفهم  0 فمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن مراكز استطلاعات الرأي بينت أن ما يقارب من 80% من الشعب يقفون خلف قرار الرئيس الأمريكي ، وهذه النسبة تشير لنا أن الرئيس يمثل إرادة الأمة الأمريكية  0

وعندما نتجه إلى الشرق ونختبر مواقف زعماء الدول الاستراتيجية في العالم الإسلامي ، ومدى ردة فعل الشارع الإسلامي عليها ، نجد بأن التأييد خلال هذه الأزمة منخفض جداً ، هذا بالرغم من السيطرة التامة للحكومات الإسلامية على وسائل الإعلام ومراكز استطلاعات الرأي محلياً ، وذلك ايضاحاً كاملاً لهشاشة كيان الدولة في العالم الإسلامي  0

والخطير في ذلك أن هذه المؤشرات تبين لنا أن الحكومات الإسلامية تخضع لنفوذ غير مباشر ومباشر أحياناً من قبل الدول الغربية ، وكثرة الضغوط الغربية على هذه الحكومات تساعد على توسيع الفجوة بينها وبين شعوبها ، وذلك يؤدي إلى ايجاد حركات متطرفة في عالم الجنوب 00

وعندما أقول عالم الجنوب لا أقصد الإسلام فقط ، بل أقصد الحضارات الأخرى أيضاً مثل الكونفوشية والهندوسية والبوذية 00 إلخ 0 ومن هنا يفترض أن ندرك بأن عولمة العالم من ناحية ليبرالية مستحيلة ، وخاصة أن أبناء الجنوب ينتمون إلى حضارات وثقافات يعود عمقها التاريخي إلى يوم هبوط آدم على الأرض  0

مثلاً الصين الكونفوشية من سابع المستحيلات أن نعمم فيها الحضارة الليبرالية ذات الاقتصاد الرأسمالي ، لأن ذلك يخالف معتقداتهم بشكل كلي ، فنجد بأن الجانب النظري للأخلاق عند كونفوشيوس  يتضمن ماهية الفرد الذي هو الأساس والنواة للأسرة والمجتمع 0 ويشرع خلال هذا الجانب بأن يعيد الفرد إلى جوهره الحق ، وإلى فطرته الإنسانية الحقة ، وهذا الرجوع يؤهله لتهذيب ذاته (د0 أحمد ، فلسفة الأخلاق والسياسة ، ص 59) 0

وهذا أيضاً ينطبق على الحضارة الإسلامية فعندما نحاول أن نذيب الحضارة الإسلامية في الحضارة الليبرالية الغربية فسوف نجد بون شاسع بين المفهومين الحضاريين ويمكن أن نختبر ذلك من خلال المحاور التالية

1- الحضارة الليبرالية الغربية تعطي الحرية الكاملة للمرأة في جميع تصرفاتها ، ولا تردع إلا عندما تصل إلى مرحلة التعدي على حرية الآخرين  0
أما الحضارة الإسلامية من خلال الآية القرآنية الكريمة  { يايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان اللّه غفوراً رحيما }  ( الأحزاب  59 ) 0
2- تكوين الأسرة ، ففي الحضارة الغربية رغم وجود عقد مدني للزواج ، إلا أن القانون المدني عندهم يبيح لهم العلاقة بين الرجل والمرأة بشكل كلي خارج عقد الزواج  0
أما في الحضارة الإسلامية فالعلاقة ما بين الرجل والمرأة لا تتم إلا من خلال عقد مقدس يتمثل في الزواج ، وتقول الآية الكريمة { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } 0
3- المثيلين ، أعطتهم الحضارة الليبرالية ما لم تعطهم أي حضارة على وجه الأرض ، وذلك على النقيض تماماً من الحضارة الإسلامية بحيث تقول الآية الكريمة في قوم لوط { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضودٍ }  ( هود  82 ) 0
4- بالنسبة للمسكرات والقمار والتماثيل والتعويذات فهي مباحة بشكل كلي في الحضارة الليبرالية ، أما بالنسبة للحضارة الإسلامية فيقول اللّه تعالى  { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ( المائدة  90 ) 0

إذاً اذابة حضارة الجنوب بواسطة الشمال ضرباً من الخيال ويحتاج إلى معجزات في عصر توقفت فيه المعجزات ، باستثناء الكرامات التي تتنزل على المؤمنين من المجاهدين 0 وكلما تطرف الشمال لعملية الاذابة بطريقة طردية ، كلما كانت نتائج الاقتراب عكسية ، ونتج عنها حالات التطرف التي نشاهدها اليوم في عالم الجنوب 0 ولا يوجد حلاً لذلك إلا من خلال التعايش ما بين الحضارات 0 ونجد المفكرين الغربيين من أكثر الناس إيماناً بأن الديانة الإسلامية ، هي الأفضل للتعايش ما بين الحضارات ، فمثلاً برنارد لويس قال  ” أنه في غالبية الحقب التاريخية عاشت الأقليات الدينية بصورة أفضل في ظل الحكام المسلمين ” ( نيوزويك ، 71 ، ص 20 0 ) 0

فسيد البشرية جمعاء محمد ص نبي اللّه ورسوله ، لم يؤمن فقط بالتعايش مع أصحاب الحضارات الأخرى ، بل حتى التعامل معهم ، والدليل على ذلك عندما انتقل أشرف الخلق إلى الرفيق الأعلى ( كانت درعه مرهونة عند يهودي مقابل 30 صاعاً من الشعير ) 0 وكذلك نجد بأن الإسلام من الديانات التي تحث على العلم واقتباس الوظائف والحرف المفيدة من الأمم الأخرى ، فمثلاً أخذ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه من الروم ( تدوين الدواوين ) ، وأخذ من الفرس ( وضائع كسرى ) في تقدير ضريبة الأرض الزراعية ، وأخذ الأمويين ( علوم الصنعة ) من مدرسة الاسكندرية 0 وكذلك الإسلام لا يعتدي على الأماكن المقدسة للآخرين ، فنجد الفاروق عمر رضي اللّه عنه عندما دخل القدس ، عامل النصارى معاملةً طيبة ، وأعطاهم عهداً بأن لا تسكن ولا تهدم كنائسهم  ( آل ثاني ، جيواستراتيجية العالم الإسلامي ) 0

أما في تاريخنا المعاصر فنجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية يصفها الغرب بأنها أكثر البقاع تطرفاً ومعها إمارة أفغانستان الإسلامية  0 بالرغم من بروز دور الإصلاحيين في إيران بقيادة الفيلسوف محمد خاتمي ودوره الحثيث في دعم حوار الحضارات ، ويشاركه في ذلك حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر ، الذي لم يتوان بأي جهد لوجستياً أو مادياً أو معنوياً لدعم هذا المشروع تحت مظلة الأمم المتحدة 0 وكذلك افتتح سموه محطة الجزيرة ودعمها لوجستياً ومادياً ومعنوياً لكي تمثل الصوت الناطق لحوار الحضارات ، وهي بالفعل أدت هذا الدور بشكل جيد جداً باستثناء العصبية المفرطة من قبل بعض مذيعها عند إبداء المشاهدين لآرائهم حول موضوع ما  0

وخلاصة القول أن ما تفعله الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان لن يعالج المشكلة بل سيزيد الأمر سوءً والأدلة على ذلك كثيرة
– هل القصف رسخ إسرائيل وعالج مشكلة فلسطين منذ عام 1948م ؟
– هل القصف عالج مشكلة كشمير ؟
– هل عالج مشكلة كلا من كوريا 1950م ، كوبا ، الفيتنام ، العراق 1991م 00 إلخ ؟ 0

هذا كله يجعلنا نتفق مع بعض المحللين بأن الولايات المتحدة قامت بتقسيم العالم إلى مربعات حربية صغيرة تقصف احداها وترجئ الأخرى ، ومن هذه المربعات في العالم الإسلام أفغانستان ، وباكستان ، وكشمير ، وأواسط آسيا ، والبلقان ، والشرق الأوسط ، ونخشى من الأنفجار الجماعي لهذه البؤر التي سوف تنتج عنها الحرب العالمية الثالثة  0

وفي الختام حاولت أن اختزل هذا الموضوع بعبارات دقيقة ومختصرة ، ولكن أفضل ختام ما قاله الأستاذ بابكر عيسى ” هذا العالم وحتى قبل أن تنطلق العاصفة كان وما زال ممكناً أن يكون وطناً للجميع ، ولكن محاولات التهميش وألغاء الآخر وفرض الرؤى الأحادية جعلت الجميع ينفر من العولمة ، وينفر من صورة هذا العالم الجديد الذي غابت عن أفقه الخصوصية وغلبت عليه اقتصاديات السوق التي افقدت الكثيرين في ظل غياب دولة المؤسسات ( الراية ، العدد 1704 ) 0

وإلى اللقاء دائماً إن شاء اللّه ،،،

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *