العولمه ودولة الرفاهية الاجتماعيه

بسم الله الرحمن الرحيم

27/12/2005

أعتقد ، من أفضل التعريفات التي استطعنا الحصول عليها للمصطلح أعلاه هو ما قاله د. الكيالي وآخرون :

مصطلح يشير إلى قيام الدولة بتقديم خدمات وتأمينات اجتماعية ومعونات إلى أفراد المجتمع بما يحقق ارتفاع مستوى المعيشة أو ضمان حد أدنى لها . وينطلق هذا المفهوم من حق كل إنسان في الحياة الكريمة ومن نظرة اجتماعية وإنسانية قوامها وجود رابطة قوية بين رفاهية الأفراد ورفاهية المجتمع .

وتشمل الخدمات والتأمينات في دولة الرفاهية : التعليم ، الصحة ، مستوى من الدخل ، توفير العمل ، والتأمين ضد العجز والشيخوخة ، على سبيل المثال لا الحصر . ولا تعتبر دولة الرفاهية دولة اشتراكية بالضرورة على الرغم من وجود سمات مشتركة ( كيالى وآخرون ، الجزء الثاني ، ص 713 ) .

أنواع دولة الرفاهية :

أ  – الدول الصناعية المتقدمة :

ذلك يمثل ثورة تراكمية منذ بداية عهد الثورات الصناعية وما واكبها من نضج سياسي واقتصادي واجتماعي وقانوني . وكانت نتيجة ذلك بروز الشخصية المعنوية لمفهوم الدولة الويستفالية ، وبروز دور مؤسسات الدولة ، والتي تستمد سلطتها من الشعب من خلال نصوص دستورية محكمّة وليست هولامية ، وكذلك الممارسين لسيادة الدولة في السلطة التنفيذية والتشريعية يتم اختيارهم شعبياً من خلال مسمى الديمقراطية الغير مباشرة ، والسلطتين المذكورتين يكون لهم دور كبير في تحديد شخصية السلطة القضائية إلى أن يتم لها البروز المستقل عن باقي السلطات ، وفي النهاية استطاعت هذه المجتمعات إيجاد ما يسمى الفصل ما بين السلطات مثل : ما هو الآن النظام الذي يحكم العالم ، واقصد هنا النظام الأمريكي ، أو ما يسمى النظام البرلماني مثل بريطانيا ونظام الجمعية, مثل سويسرا والذي لا يوجد فيه وضوح كامل للفصل ما بين السلطات من الناحية النظرية ، ولكن الأهم من ذلك وجود المجتمعات المدنية المستقلة وذات الإرادة الكاملة مثل : الأحزاب السياسية ، والنقابات ، والتنظيمات السياسية والاجتماعية والخيرية الأخرى !! .

وصراحةً مهما اختلفنا مع أوربا وأمريكا ، ولكننا نستطيع أن نرى الدولة التي تستمد سلطتها من الشعب ، وأستطيع أن أزف إليكم مثلاً معاصراً وبسيطاً جداً ، فسياسيين فرنسا حاملين حلم الاتحاد الأوربي ولهم مساهمات كبيرة في كتابة وصياغة الدستور الأوربي ، والشعب الفرنسي هو الذي رفض الدستور الأوربي ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يحدث ذلك في فرنسا رغم أن قاداته المنتخبين شعبياً هم الذين كتبوا وصاغوا الجزء الأعظم من الدستور الأوربي ؟ .

الإجابة : سهلة وبسيطة ومختصرة ، هو لأن الشعب الفرنسي شعباً يملك إرادته !! .

وخلاصة القول ، استطاعت الإرادة الشعبية في الغرب من إيجاد دولة تمتلك جميع مقومات السيادة وهي :

أولاً :      المحافظة على أمن الدولة في الداخل ، وصد الاختراق من الخارج .

ثانيــاً : عدالة توزيع الدخل .

ثالثــاً : عدالة توزيع الوظائف .

رابعاً : الشفافية الإدارية والاجتماعية والسياسية والمالية الكاملة .

خامساً : حسم النقاط الخلافية من خلال استفتاء دستوري ، والنتيجة إيجاد دولة رفاهية من دون مساومة مثل :

(1)   توفير الحد الأدنى من الخدمات والمرافق الأساسية التي تصون كرامة الإنسان مثل : السكن ، والصحة ، والتعليم ، والترفيه .. إلخ .

(2)   أجور الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل ، وللطلبة ، وللمتقاعدين ، ولكبار السن ، وللعجزة من دون أي تمييز بين الجنسين .

ب : دولة الرفاهية في دول العالم النامي :

صراحةً لم نستطيع أن نجد الصورة الكاملة لدولة الرفاهية في العالم النامي باستثناء بعض النماذج في الدول ذات الموارد الطبيعية الكبيرة مثل الهايدروكاربون . فالدول النامية وخاصة الدول العربية الهايدروكاربونية تمتلك الهايدروكاربون ملكية مطلقة ، وهذا أعطى هامش كبير من المساومة للدول الهايدروكاربونية للابتزاز السياسي وهو من خلال توفير الحد الأدنى من بعض الخدمات والمرافق والإعفاء من ضريبة الدخل ، وتخفيض الضرائب الأخرى مقابل عدم مناقشة مركزية الدولة ، والتي نستطيع أن نصورها بدولة الفرد وهذا المصطلح أعتقد هو أسوأ من كلمة الدولة الشمولية ، لأن مفهوم الدولة الشمولية متمركزة إما في حزب سياسي مركزي مطلق مثل الأنظمة الشمولية في حلف وارسو ، ودول الكوميكون الاشتراكية ، ولكن هذا النموذج طور بطريقة أسوأ في دولنا العربية بحيث تدريجياً انتقلت سلطة النظام الشمولي العائلي أو العسكري من جماعة محددة مسيطرة على السلطة إلى أفراد محددين لهم السيطرة المطلقة من خلال السيطرة الكاملة على النظام الاقتصادي والنظام الأمني ، وللأسف نتيجة ذلك ولد في الشرق الأوسط شيء من اللامبالاة السياسية والوطنية خاصة ما بين معظم الشباب ، وأقصد هنا الأجيال الأقل من 30 سنة !! . وهروب الأجيال التي تحطمت أحلامهم أمام بوابات السلطة الشرق أوسطية وفسادها ، فمثلاً الوطن العربي إذا كان بالإمكان أن تسمحوا لنا بتسمية العالم العربي وطناً يساهم بثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية ، وحيث يشكل الأطباء منهم 50% والمهندسين 23% والعلماء 15% ، وأشارت بعض التقارير إلى أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم . وقد بلغت الخسائر التي منيت بها البلدان العربية من جراء هجرة العقول في عقد السبعينيات 11 مليار دولار والآن ضعف هذه الإحصائية عدة مرات . وخلاصة القول أن هجرة الأدمغة تؤدي إلى تأمين في فترة مؤقتة مليارات الدولارات من العملة الصعبة إلى البلدان الأصليين المهاجرين منها ، وتساهم في تحسين الوضع الاجتماعي للعائلات الفقيرة بالذات ، ومع بعد هذه الكفاءات عن اوطانهم الأصلية ، يعني أيضاً توسيع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة .

ونتيجة هجرة الكفاءات العربية هو القضاء على البصيص المتبقي من الأمل في آخر النفق ، لأن ذلك سيؤثر على أية برامج عربية مستقبلية للتنمية العربية في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، ولذلك لابد لنا من إيجاد حلول للحد من هذه الظاهرة تمهيداً لوقفها !! ( الشرق الأوسط (9836) 0

السؤال الذي يطرح نفسه لو قامت الدول العربية الغنية باستعادة مبالغها المستثمرة في الدول الأجنبية وهي أكثر من 2 تريليون دولار ، وتم ضخها من خلال برامج محكمة في العالم العربي والإسلامي : هل تعتقدون سنخسر الكفاءات العربية المهاجرة إلى الغرب ؟ هل تعتقدون أنه سيكون عندنا في العالم مؤشر البطالة السافرة أكثر من 30% ؟ ومؤشر البطاله المقنعه أكثر من 50% 0

السادة الأفاضل الآن سنقول لكم شيئاً ربما يشكل صدمة لكم , وهو عندما أقول لكم أن دول الرفاهية التي نحن قادمين منها ، وتشكل حلم معظم الشباب العرب للهجرة إليها ، وهي تمثل دول مجلس التعاون الخليجي العربي متوسط مؤشر البطاله بها 15% ,و يوجد بها ما يقارب من 15% إلى 35% من البطالة ما بين الشباب الأقل من 30 سنة !! . والمشكلة الحقيقية ليست بسبب عدم وجود رؤوس أموال لضخها لهندسة برامج تنموية يكون انعكاسها امتصاص الشباب الخليجي العاطل عن العمل ، ويكون هناك نمو متوازي ما بين البرامج الاقتصادية وتوظيف الأيدي العاملة الجديدة ، ولكن الكارثة هو عدم وجود البرامج أصلاً . والمشكلة الثانية هو وجود العمالة الأجنبية في دول مجلس التعاون الخليجي التي تصل نسبتها ما بين 70% إلى أكثر من 95% من الأيدي العاملة في بعض الدول الخليجية وخاصةً القطاع الخاص ، وإن يكن الطفرة النفطية وعائدات البترودولار ساعدت بعض الدول الخليجية مثلاً : المملكة العربية السعودية على تأهيل العمالة السعودية للاتجاه إلى القطاع الخاص من خلال التدريب في كليات التقنية ، والمعاهد الصناعية ، والمعاهد التجارية ، والمعاهد الزراعية ، ومعاهد المراقبين الفنيين ، ومراكز التدريب المهني ، والنتيجة انخفضت قيمة تحويلات الأجانب من الناتج المحلي السعودي بحيث في عام 1994م بلغت 10% من الناتج المحلي ، وانخفضت تحويلات الأجانب إلى خارج السعودية عام 2004 – 2005م إلى 8.3% من الناتج المحلي !! .

ولكن المشكله الخليجيه الحقيقيه ليست التاثيرات الاقتصاديه للايدي العامله الاجنبيه فقط!0 لان لوقسنا التحويلات لهذه العماله الاجنبيه في عام 2005م لوجدناها لاتتجاوز 6% من النتاج المحلي الخليجي وخاصه هذه السنه بسبب الطفره النفطيه0

ولكن المشكله الحقيقيه التي نادى بها معظم الباحثين العرب لسنوات , ولكن اخيرآ اعترفت بها دول الخليج على المستوى الرسمي, وذلك في 23نوفمبر2005م في مؤتمر وزراء العمل لدول الخليج العربيه بحيث اقر وزراء العمل الخليجيين بأن الخليج مهدد بالمخاطر التاليه:

1-         ان المنطقه قد تتعرض لتغيير سكاني اثني بشكل كبير اذا مافرضت اتفاقيات على المنطقه لتوطين العماله الاجنبيه وذلك وفق ماتنادي به المنظمات الدوليه في اطار سعيها لتحقيق العولمه في مجال الموارد البشريه وتوطين العماله المهاجره , علمآ بأن العماله الاجنبيه تصل نسبتها الى مايقارب 50% من سكان الخليج العربي , واكون مندهش بطريقه كبيره عندما اتذكر العبارات العنصريه التي ينطق بها العنصريين في اوربا وخاصه في المانيا وفرنسا بأن دولهم تنتحر اثنييآ ونسبة الاجانب لاتزيد عندهم على 10%0 اذآ ماذا نقول نحن في دول مجلس التعاون الخليجي؟!0(www.df-althani.com)

2-                          من الناحيه الاجتماعيه تأثيرها على الهويه الثقافيه العربيه الاسلاميه0

3-                          من الناحيه الاسترتيجيه تأثيرها على الامن وعلى السياده الوطنيه0

وكانت التوصيات في الاجتماع اعلاه :

1-   تحديد مهله للعامل الاجنبي لاتزيد على ست سنوات اقامه في البلد الخليجي المضيف0

2-   توفير فرص عمل للعماله الوطنيه وترشيد استقدام العماله الاجنبيه0(الشرق الاوسط24نوفمبر2005م)

النتيجة أعلاه تقول لنا أن نوجه استثماراتنا إلى الإمكانيات البشرية وأن نوفر لهم البرامج التنمية المحكمة ، وذلك سيختصر علينا إيجاد دولة الرفاهية في المنطقة العربية !! .

أخيراً البعض يعتقد بأن هجرة العمالة هو من صالح الدولة الطاردة والخاسر ، الدولة المستقدمة ، طبعاً ذلك ليس بقاعدة ، ففي خمسينيات القرن الماضي ، كانت بريطانيا تعاني من مصطلح سمي آنذاك : هجرة الأدمغة، وكان يقصد به الكفاءات المهاجرة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، تعني انتقال أهم رأس مال اقتصادي للبلد ألا وهو الرأسمال البشري المثقف ( الشرق الأوسط ، العدد 9836) .

ونفس الموضوع أثير الآن في بريطانيا وهو أن استقدام الكفاءات المهنية في أوربا الشرقية إلى بريطانيا ستساهم في رفع الدخل في بريطانيا وترسيخ مفهوم مجتمع أو دولة الرفاهية ، فيقول ويليام اندرهيل من نيوزويك : ” أعطهم الفرصة وسيعملون بجد ، فالمهاجرين وخاصة من أوربا الشرقية في بريطانيا مساهمتهم من خلال الضرائب في الاقتصاد الوطني البريطاني يصل إلى 500 مليون جنيه إسترليني سنوياً . وبعبارة أخرى استطاع المهاجرون أن يقلبوا الحكمة التقليدية رأساً على عقب حيث أثبتوا أنهم حافز اقتصادي وليسوا عوامل إحباط ، وأنهم ليسوا طفيليات تمتص دم نظام الرفاهية الاجتماعي ” ( نيوزويك العربية العدد 280 ص 31) .

وعدم توظيف الكفاءات العربيه التوظيف السليم اعتقد نستطيع ان نختبره من خلال مثال بسيط ساقدمه لكم وهو مدى الاستفاده من الطفره النفطيه :

الفرق مابين ارتفاع النفط عام 1979-1980 م , و2004 – 2005  م, في الاول صدمه في العرض , اما في الثاني فصدمه في الطلب , وارتفاع اسعار النفط الى 70 دولار من الناحيه الرسميه اقتطعت 4,5 % من الناتج المحلي العالمي , الا ان دول اوبك تستهلك 83% من عوائدها النفطيه في الاسواق الخارجيه بسبب عدم وجود البنيه التحتيه العربيه والاسلاميه الضخمه لاعادة تدوير الريع الذي حققه النفط في 2004-2005 م , مقارنه مع عام 1974 عندما كانت تنفق 27% من ريعها النفطي 0

واتجهت استثمارات الدول المنتجه في شراء اسهم وسندات الدول الاجنبيه , وهذا العامل مهم في تمويل عجوزات كبيره في الحسابات الجاريه في كبريات الدول المستهلكه للنفط مثل الولايات المتحده الامريكيه ! (نيوزويك العربيه 282)0

في دراسه سابقه لنا قلنا بأن الاقتصاد العالمي لن يتأثر عند وصول سعر النفط الى 40 دولار لان ذلك سيقتطع 1,5% من الناتج المحلي العالمي فقط , ولكن العمليه المفاجئه هي بأن سعر برميل النفط 70دولار في اكتوبر 2005 م , الاان النسبه التي اقتطعتها دول الاوبك من الناتج المحلي اعلاه لاتتجاوز 42, 0% , وذلك كما ذكرت سلفآ بسبب اعادة تدوير رأس المال في الدول اصناعيه , اوتهريبه اليها!  0 فكروا لبرهه وتخيلوا لويوجد عندنا دول مؤسسات ناضجه , وبرامج اقتصاديه سليمه , واستوعبنا معظم الكفاءات العربيه في الداخل والمهاجره ايضآ : هل سيبقى دخلنا واقصد الدول النفطيه اقل من 5 , 0 % من الناتج العالمي !0

أيها السادة الأفاضل ، نحن نمر في منعطف تاريخي خطير جداً ، ولم نعد نفكر متى سنعيش في العالم العربي في دولة رفاهية ؟ ولم نفكر متى سيرتفع دخلنا إلى مستوى دخل الشعوب الأوربية ؟ ولكننا لابد لنا من التحرك للاحتفاظ بأدنى حد من الكرامة الإنسانية ؟ .. ولم لا :

فالبقرة في الاتحاد الأوربي تستهلك 205 دولارات في اليوم ، وهذا أكثر مما يقتات به 75% من سكان أفريقيا !! ( الخليج 2/11/2005م) .

وفي الختام لابد لنا من التركيز على محور واحد فقط ، وهو تركيز استثماراتنا في الإنسان !0  إذا أردنا أن يكون لنا مكاناً في المجال الجيوسياسي في كوكب الأرض !! .

وإلى اللقاء دائماً إن شاء الله

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *